الجحيم العلائي في رسالة الغفران إطلالة على مدار المعتّم

الجحيم العلائي في رسالة الغفران
إطلالة على مدار المعتّم
                     
                          " حيث يكون الشّعر و الشّاعر تفتح أبواب جهنّم "                                                                                     -         جاك دريدا –

المدخل:
         صار من العادة في الدّراسات الأدبيّة التي تعرّضت لرسالة الغفران بالتحليل والنّقد أن يقع الاعتناء بالجنّة العلائيّة وصفا وعرضا ونقدا لقضاياها، لا لأنّ فضاء الجنّة هو الفضاء الأرحب الذي يشغل قسم الرحلة في رسالة الغفران فقط، بل لأنّ الجنّة مقصد ومطلب نهائيّ وأبديّ لابن القارح البطل الرئيسيّ في الرسالة، بما أنّ مدار الرّسالة على الغفران ينشأ، وفي فضاء الجنّة يتحرّك. فكانت الجنّة العلائيّة في الحقيقة جنّات، تنبثق من القداسة لتبلغ الدّناسة، وتتولّد عن المخيال الديني (الجنّة كما ورد ذكرها في القرآن) لتتّشح بالمخيال الشّعري (جنّة الشعراء وطواف ابن القارح بهم) فتتلبّس بالمخيال الشّعبي الخرافي (جنّة العفاريت وجنّة الحيّات) المنبثق عن الرّغبة والخاطر (جنّة الرغبات، جنّة المآدب). ثمّة إذن تدرّج في وصف الجنّة من المقدّس ينشأ وبالمدنّس ينتهي. وبين البداية والنهاية تبرز "نتوءات" لم تعرها الدراسات أهمّية وتظهر فواصل لا تقلّ أهمّية عن المشغل الأساسي بقسم الرحلة، هي الحشر يفصل بين جنّة الشعر وجنّة الرغبة والخاطر. وهي الجحيم ينتصب فاصلا بين جنّة المخيال الشعبيّ والراحة الكبرى (أي العودة مرّة أخرى إلى الجنّة). هذان الفضاءان: الحشر والجحيم، فيما يفصلان بين رحلة وأخرى، يصلان بينها ليشدا المتن الحكائيّ بقسم الرحلة شدّا.
      فهذان الفضاءان لا يشكّلان في حقيقة الأمر سوى انزياح عن الفضاء الرئيسيّ بهذا القسم، ونعني به فضاء الجنّة. وفي اعتقادنا أنّ هذا الانزياح مقصود من المعرّي. إذ رحلة ابن القارح في هذا القسم ليست سوى رحلة تنوس بين قطبين رئيسين هما النعيم الأبدي (الجنّة والراحة الكبرى) والهلاك الأبدي (الجحيم). بين هذين القطبين، يقطع البطل الرئيسيّ أشواطا من البحث الممضّ العاتي المحفوف بالمخاطر بحثا عن الخلاص الأبدي، فيحاصره المعرّي بالمستحيل بينما يجعل الإمكان جزء من كيانه ويقحمه في معركة أزليّة بين قوّتين ليست، في نظرنا، سوى انعكاس للوجود الإنساني، بين نعيم المآل وجحيم الوصول، بين الغاية والسبيل. فالأولى، أي نعيم المآل، تفضي إلى الراحة الكبرى والنعيم الأبديّ، والثانية تفضي إلى هلاك أبديّ. الأولى تشدّ البطل نحو الخلاص. والثانية تشدّه نحو الهلاك. تمارسان فعلهما على الدّوام تحت سمع الله وبصره. وفي اعتقادنا أنّ سبيل الوصول هو الأكثر قصدا من الوصول. وبالتالي، يغدو الجحيم أكثر أهمّية من الجنّة. ذلك ما يدفعنا إلى الخوض في غمار البحث في نص الجحيم بدل نص الجنّة دون الفصل بينهما لنخلص في النهاية أنّ المعرّي يكتب قسم الرحلة بالخلف / بالقلب.
في موقع " نص الجحيم " بقسم الرحلة
      يشغل نصّ الجحيم بقسم الرحلة موقع الوسط من الجنّة العلائيّة تقريبا فيفصلها إلى جنّات لا إلى جنّة موحّدة. وهو كذلك صنو لنص الحشر، يضطلع بنفس الفعل. ولئن قسّم المعرّي رحلة ابن القارح بجنّته إلى فصول ستّ، وهو تقسيم لا يبدو لنا اعتباطيا بقدر ما يبدو على غاية من الأهمّية، فإنّ نصّ الجحيم ضمن ما يرد من تراتب هذه الفصول بقسم الرحلة ( 6)، يفضي بنا حتما إلى قصّة الخلق واكتماله كما ورد الحديث عنها في القرآن. إذ نسج المعرّي رحلة بطله في ستة فصول كما خلق الله الكون في ستة أيام. وأدرك البطل الرئيسيّ الراحة الكبرى في الفصل السادس كما استوى الله على عرشه في اليوم السادس. فبين نص الخلق ونصّ الرحلة تماثل. ذاك خلق اللاهوت (الله) وهذا خلق الناسوت (الإنسان). ذاك خلق فعليّ، وهذا خلق قوليّ. ذاك خلق الكون، وهذا خلق الكلمة. وبين الكون والكلمة تعاضد وتواشج وعلاقة سبب بمسبب. إذ "في البدء كانت الكلمة". كذا يبدأ الإنجيل، وبـ "اقرأ" يبدأ القرآن، و بـ"كن فيكون" يكون الخلق ويتشكّل الكون. وبالكلمة الطّيبة (الرسالة) أمكن لابن القارح الدخول إلى الجنّة. فكان مدارها عليها شعرا (جنّة الشعراء) وكان الموضوع بسببها جدلا لغويّا واستطرادا نحويّا ومعجميّا. بيد أنّ نصّ الجحيم، فيما يتنزّل في الفصل الخامس من الرحلة، حسب تحقيق بنت الشاطئ يبتر الخلق بترا ويجهض الاكتمال. وكذلك الحشر، فيما يتنزّل في الفصل الثاني من قسم الرحلة، يخرم الرحلة في الجنّة. إنّ الجحيم بهذا الموقع الذي يحتلّه من قسم الرحلة يجعل من النهاية نهايتين متماثلتين في الإمكان، نهاية النعيم الأبديّ ونهاية الهلاك الأبديّ، نهاية الجحيم ونهاية النعيم، نهاية الإمكان ونهاية الاستحالة. وبهذا كان قسم الرحلة نصّا حكائيّا منفتحا. وهو فيما يوهم ظاهريّا أنّه كذلك، لا يفضي إلى نهاية واضحة.
في جحيم الشعر والشعراء
      زجّ المعرّي في جحيمه بالشعراء دون سواهم من اللغويّين والمغنّين والحيوانات والأواني والشجر... فلا يكاد الجحيم إلا أن يكون حكرا على الشعراء. وعلى عدد شعراء الجنّة ( 16) كان عدد شعراء الجحيم بدء ببشار بن برد و نهاية بتأبّط شرّا. فلكأنّ نص الجحيم صنو لنصّ الجنّة ومثيل له. إنّه النص الأصغر ( 14ص) الذي يعادل النص الأكبر. إنّه الجزء الذي يماثل الكلّ. وليس شعراء الجحيم كشعراء الجنّة. هؤلاء ممّن حرموا في الفانية ونعموا في الباقية. وأولئك ممّن نعموا في الفانية وحرموا في الباقية. هؤلاء أصحاب النهاية وأولئك أصحاب البداية. هؤلاء بدايتهم جحيم ونهايتهم نعيم وأولئك بدايتهم نعيم ونهايتهم جحيم. وبين هؤلاء وأولئك، بطل كانت بدايته (دنياه ) نعيما ويريد نهايته نعيما ( آخرته ). أفكلّ من ظفر بالنعيم بداية ينتهي إلى الجحيم نهاية ؟
      إنّ جلّ الشعراء الذين أقحموا في الجحيم مثّلوا أقطاب الشعر وبداياته، فكانوا أصحاب الكلمة الشعرية وكانوا ممن قصّدوا القصيد وامتلكوا بدايات الشعر. وليس شعراء الجنّة سوى من التابعين في أغلبهم ومن ضعاف الشعر كما اتفق في شأنهم النقاد. سطوا على أشعار الأوّلين (السرقات الأدبية). وليس شعراء الجحيم سوى من فحول الشعراء، ممّن كان لكلّ شاعر شيطان من شياطين الشعر وكبيرهم في ذلك إبليس، به يفتتح المعرّي نص الجحيم (انظر نص إبليس وبشار). ومن المدهش حقّا في هذا النّص، أن يكون ابن القارح ومن خلفه المعرّي ومن خلفهما جمهور القرّاء، قد حافظ للهالكين على نوع من الإكرام لبهائهم. يقول ابن القارح مخاطبا بشّارا:"يا أبا معاذ، لقد أحسنت في مقالك، وأسأت في معتقدك، ولقد كنت في الدار العاجلة أذكر بعض قولك فأترحّم عليك، ظنّا أنّ التّوبة ستلحقك". ويقول في علقمة "أعزز عليّ بمكانك! ما أغنى عنك سمطا لؤلؤك، يعني قصيدته على الباء" فأصلهم نبيل وباعهم في الشعر طويل. والجحيم الذي يبغي إذلالهم ممجّد سلفا. ولكأنّ لسان حال هؤلاء الشعراء يكاد يردّد ما قاله " دانت" في كوميدياه الإلهيّة: " كرّم بهائي في جهنّم بما أنّه تألّق في الدنيا "
     إنّ الجحيم المكرّم بهؤلاء الشعراء يبدو مكان الانسجام وموطن الشعر والشعراء ومأواهم. فلكأنّ الشعر صنو الهلاك الأبديّ. إذ حيثما يكون الشعر تفتح أبواب الجحيم. بهذا ردّ عمرو بن كلثوم على ابن القارح" إنّك لقرير العين لا تشعر بما نحن فيه، فاشغل نفسك بتمجيد الله". ولكأنّ الجحيم، كما يبدو لنا من كلام عمرو بن كلثوم يمثّل مآل المتخلّين عن الله أو الذين ابتعد الله عنهم تماما، ذلك المكان الأخير والصافي من الله، قد أضحى عامرا بالله. وخلاف ذلك، تضحي الجنّة، مكان المؤمنين المقرّبين من الله، خالية من الله. يقول طرفة بن العبد ردّا على كلام ابن القارح "ودِدْت أنّي لم أنطق مصراعا، وعدمت في الدار الزائلة إمراعا، ودخلت الجنّة مع الهمج والطّغام ولم يعمد لمرنسي بالإرغام وكيف لي بهدوء وسكون أركن إليه بعض الركون؟ " ومثلما تمنّى طرفة بن العبد الدخول إلى الجنّة، تمنّى ذلك أوس بن حجر الذي يعدّ كلامه من الفحول قائلا: " ولقد دخل الجنّة من هو شرّ منّي ولكنّ المغفرة أرزاق كأنّها النشن في الدار العاجلة ". فلكأنّ ما ورد تلميحا في نصّ الجنّة قد جاء تصريحا في نصّ الجحيم. ولئن بدا النعيم نعيما جماعيا، فإنّ العذاب عذاب فرديّ، ولكنّ المعرّي حافظ للهالك على نوع من الإمكان في وجه الاستحالة، في وجه عذاب زمن لا متناهي يقاس بالأزل.
                                               *******
      إنّنا نفهم من خلال هذا الجرد السريع لنصّ الجحيم أنّ المعرّي قد سعى إلى بناء قسم الرحلة بالخُلف. فما ورد حديثا عن الجنّة هو في نظرنا جحيم. وما ورد حديثا عن الجحيم هو من وجهة أخرى نعيم. بيد أنّ النصّين، فيما يتعارضان في ذلك يتّفقان في التأكيد على أنّ النّاس محكومون بسيادة الكلمة بدل سيادة التاريخ. إذ يكاد الزمن في حركته وصيرورته في المجالين والفضاءين: فضاء الجنّة وفضاء الجحيم. وفي انعدام سلطة التاريخ، إفساح لسلطة اللامنطق وسلطة الخارق والعجيب والغريب والمعجز والوحي والخيال.
      إذ ليس نصّ الغفران سوى في وجه من وجوهه نص يتنزّل في المآل، يكسر منطق الحكي باعتباره استعادة للماضي، ليضحي بذلك استجلابا للمستقبل عبر خطاب حكائيّ ينعقد بالرغبة والخاطر في حركة نفسية (من جهة البطل) وحركة خيالية (من جهة الكاتب)، هي في وجه من وجوهها تجاوز للأنماط السائدة في الكتابة. لكن تبدو الشخوص وفق هذا المنطق الحكائيّ، وفي هذين الفضاءين من المكان في قسم الرحلة برسالة الغفران تعمد إلى تذكّر الدنيا واستعادة أقوال الفانية والأفعال المنجزة سلفا فيها. إنّها بذلك لا تبتكر التاريخ بل تنشئ الأسفار والحكايات. وعلى هذا النحو، جاء قسم الرحلة نواتات حكائيّة انعقدت بفعل سؤالين يلحّان على البطل الرئيسيّ فيها هما سؤال "بم غفر لك؟ " في الجنّة وسؤال "لِمَ لمْ يُغفر لك في الجحيم". وفيما يضطلع هذان السؤالان بدور دفع الأحداث في نصّ الرحلة برسالة الغفران، فإنّهما يبتران حركة الحكي فيه عبر توالد أو تناسل النواتات الحكائيّة عن بعضها البعض.
       وبذلك حافظ المعرّي على نوع من التماثل بين نصّ الجنّة ونصّ الجحيم. وكان الحكي فيهما يتطوّر تطوّرا لولبيا لا تطوّرا خطّيا. فالحكايات الواردة بقسم الرحلة بفضاءاته المكانيّة الثلاث (الجنّة – الحشر – الجحيم) تفترض نوعا متناظرا من الذاكرة تعمد إلى تكرار الحكايات وتصنيفها. فتشكّل الحكايات فيه نسقا تصنيفيا تجري فيه لعبة معقّدة من التشابهات والتبدّلات والاستكمالات النوعية. إنّ نوع الذاكرة الملائم لهذا الخطاب الحكائيّ يتطلّب واحدا من اثنين: استرجاع الماضي وبالتالي الدنيا ونقلها إلى عالم الجنّة بكلّ مكوّناتها المادّية. باستثناء نصّ الجحيم الذي حافظ على تميّزه وخصوصيته. لأنّه نصّ لا يشير إلى فعل تفترض عمليّة الكتابة ونوع الذاكرة استعادته، ولا يشير كذلك إلى سلسلة من المجريات المتعاقبة تقتضي حفظها لمحاولة استعادتها واسترجاعها، بل يشير إلى وجود قائم على بنية محدّدة. إنّه بذلك نصّ وجود.          

                                          تونس في 05ـ07ـ2009
                                           عبد الباسط العرفاوي  
                                          

2 commentaires:

  1. محاولة في قراءة ما لم يقرأ في رسالة الغفران.

    RépondreSupprimer
  2. محاولة في قراءة ما لم يقرأ في رسالة الغفران.

    RépondreSupprimer